في رفوف المحلات التجارية والأسواق الممتازة بالمغرب، يجد المستهلكون علب "تونة إيزابيل" التي تُباع بسعر يقارب 10 دراهم. للوهلة الأولى، يبدو الأمر مغرياً: منتج دولي، سعر في المتناول، واسم تجاري ذائع الصيت يوحي بالجودة والموثوقية. غير أنّ ما تخفيه هذه العلب يثير الكثير من التساؤلات حول طبيعة ما يُستهلك فعلياً، وحول مدى سلامته على صحة المواطن المغربي.
خلفية: صورة التونة في ذهن المستهلك
التونة تعتبر من أكثر الأسماك المعلبة استهلاكاً عالمياً، حيث يُنظر إليها كخيار غذائي صحي وغني بالبروتين وأحماض "الأوميغا 3"، بالإضافة إلى سهولة حفظها واستخدامها في مختلف الأطباق. غير أن هذا التصور المثالي، الذي يستند إلى سمعة التونة الطازجة، لا يعكس بالضرورة حقيقة المنتجات التي تُسوَّق تحت هذه التسمية في بعض الأسواق، وعلى رأسها المغرب.
من التونة إلى "الليسطاون"
بحسب تقارير صحفية وشهادات خبراء في مجال الصناعات الغذائية، فإن ما يُباع تحت مسمى "تونة إيزابيل" في السوق المغربي ليس تونة بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هو نوع مختلف يُعرف باسم "ليسطاون" (Listao)، وهو صنف أقل قيمة غذائية وتجارية من التونة الحقيقية. الأخطر من ذلك أنّ المادة المستخدمة لا تكون حتى قطعاً كاملة من هذا السمك، بل بقايا عالقة في العمود الفقري للسمكة، تُجمع وتُفتت ثم تُعلّب على أنها "تونة".
هذه المعلبات تُقدم في أوروبا في الغالب كغذاء للحيوانات الأليفة، خصوصاً القطط، بينما في المغرب ودول أخرى من إفريقيا يُعاد تسويقها على أنها موجهة للاستهلاك البشري.
مسارات التوريد: من موريتانيا إلى رفوف المغرب
مصادر مطلعة على قطاع الصيد البحري تشير إلى أن معامل الشركة التي تسوق "إيزابيل" تستورد هذه البقايا السمكية من موريتانيا، السنغال، وغينيا كوناكري، حيث يتوفر سمك الليسطاون بكميات كبيرة. يتم تجميع المخلفات وتصديرها نحو وحدات التصنيع، قبل أن يُعاد إنتاجها في شكل معلبات، ممهورة بعلامة تجارية قوية قادرة على إقناع المستهلك بجدواها.
الطماطم والسكر.. خدعة الطعم المقبول
لفهم سبب تباين النكهة بين التونة الحقيقية ومعلبات "إيزابيل"، يوضح خبراء تغذية أنّ المشكلة تكمن في التفاعل الكيميائي. التونة الأصلية تتجانس بسهولة مع حموضة الطماطم، ما يمنح المذاق توازناً طبيعياً. أما سمك الليسطاون، فيفتقر إلى هذه الخاصية، لذلك تلجأ الشركة المصنعة إلى إضافة كميات محددة من السكر داخل الصلصة لتخفيف الحموضة وجعل الطعم أكثر قبولاً لدى المستهلك. بهذه الطريقة، يتم تغليف الفارق بين المنتج الأصلي والبديل الأقل قيمة.
المخاطر الصحية المحتملة
الأمر لا يتوقف عند حدود التسويق المضلل، بل يتجاوز ذلك إلى ما هو أخطر. تقارير طبية ربطت بين الاستهلاك المتكرر لهذه المعلبات واحتمال الإصابة بأمراض الجهاز الهضمي، وعلى رأسها سرطان القولون. ويعود السبب إلى طبيعة المواد الأولية المستخدمة، وافتقارها إلى معايير الجودة المطلوبة، إضافة إلى احتمالية تعرضها لعمليات حفظ مطولة بمواد قد لا تكون آمنة بالقدر الكافي.
وبحسب مختصين، فإن المستهلك الذي يعتقد أنه يشتري منتجاً غنياً بالبروتين و"الأوميغا 3" قد يجد نفسه أمام منتج لا يحمل سوى نسبة محدودة من هذه القيم الغذائية، مقابل مخاطر صحية كامنة.
غياب المعلومة الدقيقة
جزء كبير من الإشكال يكمن في غياب المعلومة الدقيقة على الملصقات التجارية. فالمستهلك المغربي يجد عبارة "تونة" مكتوبة بخط واضح، دون أي إشارة إلى أن الأمر يتعلق بسمك آخر أو بمخلفات لا تُعتبر في الأصل صالحة للاستهلاك البشري في بلدان أخرى. هذا النقص في الشفافية يجعل المواطن ضحية لتضليل تجاري يضرب أبسط حقوقه في المعرفة والاختيار الواعي.
التشريعات والرقابة: أين الخلل؟
القانون المغربي، مثل باقي القوانين الدولية، ينص على ضرورة احترام معايير السلامة الغذائية وتوضيح المكونات بشكل صريح. لكن في الواقع، يبدو أنّ هناك فجوة في الرقابة أو ثغرات قانونية تُستغل للسماح بمرور مثل هذه المنتجات إلى السوق المحلي. هذا يفتح الباب أمام أسئلة مشروعة:
- لماذا يُسمح بتسويق منتج يُصنف في أوروبا كغذاء للحيوانات الأليفة على أنه غذاء بشري في المغرب؟
- ما هي المعايير التي تعتمدها الجهات الوصية قبل السماح بتوزيع هذه المعلبات؟
- وهل هناك اختبارات دورية تجرى للتأكد من مطابقتها للمواصفات الصحية؟
دور المستهلك ووعي السوق
لا يمكن إغفال مسؤولية المستهلك في هذه المعادلة. فرغم محدودية المعلومة، يظل الوعي الاستهلاكي عاملاً أساسياً. فالخيار بين السعر المنخفض والجودة المرتفعة يطرح نفسه بقوة. وإذا استمر الطلب الكبير على هذه المنتجات، فلن تجد الشركات حافزاً لتغيير ممارساتها. في المقابل، كلما ارتفع وعي المواطن بمخاطر هذه المنتجات، ازدادت احتمالية الضغط الشعبي والإعلامي لتغيير السياسات الرقابية.
التبعات الاقتصادية والاجتماعية
المسألة ليست صحية فقط، بل لها تبعات اقتصادية واجتماعية أيضاً. استهلاك منتجات منخفضة الجودة يضر بالصحة العامة، ما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف العلاج وتفاقم العبء على المنظومة الصحية الوطنية. كما أنه يضر بالصناعة الوطنية للأسماك، التي تجد نفسها غير قادرة على منافسة منتجات رخيصة الثمن، لكنها تحمل علامات تجارية عالمية تُغري المستهلك.
الحاجة إلى حلول
أمام هذه المعطيات، يظل الحل رهيناً بعدة خطوات أساسية:
- تشديد الرقابة على جودة المنتجات المستوردة والتأكد من مطابقتها للمعايير الدولية.
- إلزام الشركات بكتابة تفاصيل دقيقة وصريحة حول مكونات المعلبات، بما في ذلك نوع السمك المستعمل.
- توعية المستهلكين عبر حملات إعلامية حول كيفية قراءة الملصقات الغذائية والتمييز بين المنتجات الحقيقية والمزيفة.
- تشجيع الصناعة المحلية على تقديم بدائل بجودة عالية وأسعار تنافسية.
- التنسيق الإقليمي مع دول الجوار التي تواجه المشكلة نفسها من أجل وضع إطار قانوني مشترك يحد من استغلال هذه الثغرات.
خاتمة
في النهاية، يظل المستهلك المغربي في مواجهة مع واقع غذائي معقد، حيث لا يكفي توفر المنتجات في الأسواق لتأكيد جودتها أو سلامتها. ومع أن اسم "تونة" يوحي بمنتج صحي ومفيد، فإن التحقيقات تكشف أن ما يُباع في علب "إيزابيل" لا يتعدى كونه بقايا سمك مُعاد تدويره تحت غطاء تجاري جذاب.
المطلوب اليوم ليس فقط توعية المواطن، بل فرض رقابة أكثر صرامة ومحاسبة الشركات التي تمارس تضليلاً غذائياً يهدد الصحة العامة. فسلامة الغذاء ليست خياراً ثانوياً، بل حق أساسي لكل مواطن، وحمايتها مسؤولية مشتركة بين الدولة، المجتمع المدني، والمستهلك نفسه.
تعليقات
إرسال تعليق